مذكرات ابنة أسير

مذكرات ابنة أسير

أبي... واغرورقت الدموع في عيني، ووقفت الكلمات على شفتي تأبى الخروج. أبي... وخرجت من مقلتي الدمعة التي حاولت جاهدة كتمها، ولكنها أبت إلا أن تتدحرج فوق خدّي المصفر من عناء السفر. أبي... وتحطمت في داخلي كل معاني الإحساس بالفرح والسرور وبهجة اللقاء.

لم تكن هذه هي صورتك التي رسمتها في طريقي الطويل للوصول إليك. لم أرسم في لوحتي الأصفاد حول يديك ورجليك، ولا هذا السياج الحديدي اللعين الذي يمنعني حتى أن ألمس يديك الدافئتين، ولا هذه الثياب الممزقة التي تملؤها الدماء التي تنساب من جبينك، ولا حتى السواد تحت العيون من قلة النوم.

أبي... وتكسرت صفحات من الأمل كنت قد كتبتها في حنايا القلب قبل القدوم. لقد كانت صورة وجهك المشرق تلوح لي في الأفق البعيد طوال الطريق، تسليني ابتسامتك التي تتراءى لي بين الفينة والأخرى، أحاديثك القديمة قبل أن يطويك عنا الأسر. لآجل هذه الصورة فقط تحملت عناء السفر، لأجل لمستك الحانية صبّرت نفسي. آآآه كم تحطمت في داخلي معاني الجمال.

وبدأت الدموع تنهمر بلا توقف... كأنها كانت تنتظر الدمعة الأولى لتخرج وتحررها، وبدأت تبدو آثار التعب في وجهي الصغير الذي ما زال يحلم بالطفولة السعيدة، آه يا أبت لو تعلم ما الذي حدث لي في هذه اللحظة، لو تدري ما الذي يدور في خلدي الآن.

وقطع حبل شرودي صوته الحنون: بنيتي، وارتسمت على شفتيه ابتسامة أنستني كل شيء، حتى السياج، وأطلقت من روحي فراشة صغيرة طارت ومرت من خلال ثقوب السياج واستقرت فوق يديه فقبلتهما، وعلى جبينه فمسحت عنه الدماء النازفة، وحملت معها كل أشواق الابنة الصغيرة وحبها الكبير لأبيها، ونفثته أملاً في ذلك الجسد المتعب، فحررت داخله معاني الحرية بكل أشكالها، بعد أن قيدتها جلسات التحقيق الطويلة والعزل الانفرادي، ونطقت شفتاي الكلام أخيراً لتصوبه مباشرة إلى تلك الآذان التي اعتادت أن تسمع فقط صوت المحقق الفظ.

ــ بابا حبيبي، اشتقت إليك كثيراً، كم أفتقد صدرك الدافئ، قصص ما قبل النوم. أبي لمَ أنت هنا؟ عد إلينا. أبي... في كل يوم أرى الآباء يحضرون أولادهم إلى المدرسة ويرجعون لأخذهم بعد انتهاء الدوام، وأنا أنتظرك يا أبي ولكنك لا تأتي.

ــ بنيتي، الوطن ناداني فلبيت النداء، الوطن هو الأم والأب... هو الزوجة والأبناء.

ــولكن أين أنا من كل هذا؟

ــ أنت في القلب نصفه يا صغيرتي، ولكن لا حياة بدون الوطن.

ــ ولكن ما ذنبي أنا، لماذا أحرم من حنانك؟

ــ حبيبتي، ابتسمي للحياة، وارفعي رأسك عاليا، وافتخري بأن أباك يضحي من أجل وطنه، سيري بخطى ثابتة في سبيل الحرية، أبقي نصب عينيك دائما أننا للوطن فداء... صدورنا متراس.
بنيتي، أريدك دائما كبيرة، رزينة، بأخلاقك الأسمى، في دروسك الأولى، لأمك مطيعة، لأخوتك محبة وحنونة. وليكن هدفك الأسمى أملي أن يرضى الله عني، هكذا أريدك، هكذا أحبك. غاليتي، أنا وإن طواني عنك الأسر جسدا فإن روحي دائما برفقتك، بجانبك إذا احتجتها. لذا اخلعي عنك ثوب الحزن والكآبة، والبسي ثوب الصبر، وتوشحي بالعزيمة والإرادة، وارسمي على شفتيك ابتسامة السعادة، فهي لي في الأسر مؤنس ورفيق، تخفف عني العناء والضيق.

ــ انتهت الزيارة.
وصرخ الجندي بكل قسوة، ذلك اللعين الذي لم يبرح مكانه بجانبي منذ بدأت الزيارة.

ــ وداعا أبت... سأحبك دوما.

ــ وداعا صغيرتي، اعتني بنفسك جيدا، وتذكري أريدك كبيرة.

وأرسل لي في الهواء قبلة، استقرت في قلبي قبل أن تصل إلى جبيني. ذهب أبي، وترك في مخيلتي صورة يديه اللي تلوح لي معلنة الوداع، ترافقها ابتسامة تخفف حدة الوداع وتعد بلقاء قريب. هكذا، أغلقت عيناي جيدا لكي لا تتسلل منهما صورة والدي وابتسامته الرائعة رغم تعاريج الزمان التي ارتسمت في محياه، واللوحة الحمراء التي أزاحت معالم ذلك الوجه المشرق، ولكنه مع ذلك ما زال حنونا كما عهدته.

أحبك أبي، أنت في قلبي دائما. لن تمحو سنين البعد _وإن طالت_ صورتك من خيالي أبدا. وما دمت أبي الرائع سأبقى بك فخورة. إلى اللقاء أبي... إن لم يكن لقاؤنا فوق تراب هذه الأرض الطاهرة، فليكن لأرواحنا تلاقيا في عنان السماء، ولتغطينا الأرض الحنون بترابها الدافئ بعد أن ترتوي من دماءنا الزكية حتى التحرير.

وداعا أبي.